Friday, September 11, 2020

المحكمة الدستورية وتدابير الدفاع الإجتماعي


للباحثين المهتمين بموضوعات العدالة الجنائية، أرشح لهم تناول موضوع تأثر المحكمة الدستورية العليا المصرية بمبادئ مدرسة الدفاع الإجتماعي في أحكامها. والحكم التالي مثال لذلك




المحكمة الدستورية العليا - الطعن رقم 49 - لسنة 17 قضائية - جلسة 15-6-1996
برئاسة السيد المستشار الدكتور / عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وحضور محمد ولى الدين جلال ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامى فرج يوسف وعبد المجيد فياض أعضاء المحكمة وحنفى على جبالى رئيس هيئة المفوضين


....

وحيث إن الوقائع -على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق- تتحصل فى أن النيابة العامة كانت أقامت الدعوى الجنائية فى القضية رقم 5154 لسنة 1993 جنح الجمرك ضد المدعى عملا بالمادة 48 مكرراً من القرار بقانون رقم 182 لسنة 1960 المعدل بالقانون رقم 122 لسنة 1989، وذلك لما ثبت بمحضر الشرطة من أنه مسجل شقى خطر سبق ضبطه فى إحدى عشرة قضية مخدرات آخرها القضية رقم 129 لسنة 1992 جنايات مخدرات الجمرك، وأن نشاطه قد اتسع فى تهريبها وتجارتها. وبجلسة 9/2/1994 قضت محكمة جنح الجمرك غيابيا بإيداعه إحدى المؤسسات الاجتماعية لمدة سنة، فعارض فى هذا الحكم وقضى بجلسة 16/10/1994 باعتبار المعارضة كأن لم تكن . ثم استأنف هذا الحكم، وحكمت محكمة الإسكندرية الابتدائية بجلسة 4/12/1994 غيابيا بسقوط حق المتهم فى الاستئناف، وإذ عارض فى هذا الحكم، ودفع بجلسة 26/3/1995 بعدم دستورية المادة 48 مكرراً من القانون رقم 182 لسنة 1960، فقد صرحت له المحكمة بجلسة 25/6/1995 -بعد تقديرها لجدية دفعه- برفع الدعوى الدستورية، فأقامها . وبجلسة 27/8/1995 قررت المحكمة وقف الدعوى لحين الفصل فى الطعن بعدم الدستورية .

من حيث إن المادة 48 من القانون رقم 182 لسنة 1960 فى شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها، تنص بعد تعديلها بالقانون رقم 40 لسنة 1966، على أن: "تحكم المحكمة الجزئية المختصة باتخاذ أحد التدابير الآتية على كل من سبق الحكم عليه أكثر من مرة، أو اتهم لأسباب جدية أكثر من مرة فى إحدى الجنايات المنصوص عليها فى هذا القانون: (1) الإيداع فى إحدى مؤسسات العمل التى تحدد بقرار من وزير الداخلية (2) تحديد الإقامة فى جهة معينة (3) منع الإقامة فى جهة معينة (4) الإعادة إلى الموطن الأصلى (5) حظر التردد على أماكن أو محال معينة (6) الحرمان من ممارسة مهنة أو حرفة معينة. ولايجوز أن تقل مدة التدبير المحكوم به على سنة، ولاتزيد عن عشر سنوات. وفى حالة مخالفة المحكوم عليه التدبير المحكوم به، يحكم على المخالف بالحبس.
وحيث إن المدعى ينعى على النص السابق، مخالفته أحكام المواد 41، 66، 67 من الدستور، التى تنص أولاهما على أن الحرية الشخصية حق طبيعى، وهى مصونة فلا يجوز الإخلال بها، وتقضى ثانيتهما بأن العقوبة شخصية، وثالثتهما بأن كل متهم يعد بريئا إلى أن تثبت إدانته فى محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه. وقال شرحا لذلك، إن التطورات الحديثة فى مكافحة الجريمة تؤكد حقيقة أولية هى أن العقوبة لا تغنى فى مكافحتها، وأن لشخصية الإنسان قيمة عليا، فلا يجب أن يتعرض أحد لعقوبة لا يستحقها، أو تفقد تناسبها مع الجريمة التى ارتكبها. ومجرد الردع ليس كافيا لإيقاع الجزاء، والتزمت فى العقوبة أو وحشيتها لا يكفلان مكافحة ظاهرة الإجرام، بما مؤداه أن النص المطعون فيه، يقيد حقوق الإنسان وحرياته التى لا يجوز التضحية بها فى غير ضرورة، ويفرض كذلك عقوبة بلا جريمة حدد المشرع أركانها، ولا يرتبط توقيعها بالتالى بفعل أو امتناع صدر عن شخص يعد جانيا، ذلك أن تعدد الأحكام القضائية الصادرة ضد شخص معين فى جرائم المخدرات أو سبق اتهامه فيها، يعنى أننا بصدد جريمة بلا سلوك أتاه، وهو ما يناقض قضاء المحكمة الدستورية العليا، ويصم النص المطعون عليه بعدم الدستورية.
وحيث إن التدابير المنصوص عليها فى البنود من (1) إلى (6) من الفقرة الأولى من النص المطعون فيه، تعتبر جميعها من قبيل تدابير الدفاع الاجتماعى التى تنال من الحرية الشخصية، ويرتبط توقيعها بتقدير المشرع لقيام حالة خطرة بشخص معين، فلا يكون التدبير منفصلا عنها، بل لازما لمجابهتها.
وحيث إن البين من النص المطعون فيه، أن التدابير التى حددها لايجوز توقيعها ضد شخص معين إلا فى إحدى حالتين هما، سبق الحكم عليه أو اتهامه اتهاما جديا أكثر من مرة فى جناية نص عليها القانون رقم 182 لسنة 1960 فى شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها.
وحيث إن الدستور بما نص عليه فى المادة 66من أنه لاجريمة ولاعقوبة إلا بناء على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذى ينص عليها، قد دل على أن لكل جريمة ركنا ماديا لا قوام لها بغيره، يتمثل أساسا فى فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابى، مفصحا بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائى ابتداء فى زواجره ونواهيه، هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابيا كان هذا الفعل أم سلبيا، ذلك أن العلائق التى ينظمها هذا القانون فى مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها، فى علاماتها الخارجية، ومظاهرها الواقعية، وخصائصها المادية، إذ هى مناط التأثيم وعلته، وهى التى يتصور إثباتها ونفيها، وهى التى يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، وهى التى تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة المناسبة لها .

....


وحيث إن من المقرر أن مبدأ خضوع الدولة للقانون - محدد على ضوء مفهوم ديموقراطى - مؤداه ألا تخل تشريعاتها بالحقوق التى يعتبر التسليم بها فى الدول الديموقراطية، مفترضا أوليا لقيام الدولة القانونية، وضمانة أساسية لصون حقوق الإنسان وكرامته وشخصيته المتكاملة، ويندرج تحتها طائفة الحقوق الوثيقة الصلة بالحرية الشخصية بالنظر إلى مكوناتها وخصائصها، ومن بينها ألا تكون العقوبة مهينة فى ذاتها، أو كاشفة عن قسوتها، أو منطوية على تقييد الحرية الشخصية بغير انتهاج الوسائل القانونية السليمة، أو متضمنة معاقبة الشخص أكثر من مرة على فعل واحد Double jeopordy . وهذه القاعدة الأخيرة - التى كفلتها النظم القانونية جميعها، وصاغتها المواثيق الدولية باعتبارها مبدأ مستقرا بين الدول A universal maxim -مردها أن الجريمة الواحدة لاتزر وزرين، وأنه وإن كان الأصل أن يفرد المشرع لكل جريمة العقوبة التي تناسبها، إلا أن توقيعها فى شأن مرتكبها واستيفاءها، يعنى أن القصاص قد اكتمل باقتضائها . وليس لأحد بعدئذ على فاعلها من سبيل . ولايجوز من ثم، أن يتعرض الشخص لخطر ملاحقته باتهام جنائى أكثر من مرة عن الجريمة عينها، ولا أن تعيد الدولة بكل سلطاتها ومواردها محاولتها إدانته عن جريمة تدعى ارتكابه لها - ولو من خلال خطورة إجرامية تعتبرها جريمة فى ذاتها، وتلحقها بها - لأنها إذ تفعل، فإنما تبقيه قلقا مضطربا، مهددا بنزواتها، تمد إليه بأسها حين تريد، ليغدو محاطا بألوان من المعاناة لا قبل له بها، مبددا لموارده فى غير مقتض، متعثر الخطى، بل إن إدانته -ولو كان بريئا - تظل أكثر احتمالا، كلما كان الاتهام الجنائى متتابعا عن الجريمة ذاتها . وحيث إن ما قرره النص المطعون فيه من اتخاذ أحد التدابير التى حددها فى شأن الأشخاص الذين حكم عليهم أكثر من مرة فى جناية مما نص عليه القانون رقم 182 لسنة 1960 في شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها - ولو لم تتعلق هذه الجناية بالمواد المخدرة،بل كانت تعديا على رجال السلطة العامة القائمين على تنفيذ أحكام هذا القانون - مؤداه أن المشرع قدر بالنص المطعون فيه، أن ثمة خطورة تنجم عن سوابق المتهم التى تمثلها جرائم ارتكبها من قبل،وأدين عنها، واكتمل القصاص فى شأنها، وأن هذه الخطورة - التى لاتزيد عن أن تكون احتمالا لأن ينزلق مستقبلا في جريمة غير معينة - ينبغى التحوط لها صونا لمصالح الجماعة باتخاذ تدابير بعينها تنال من حريته الشخصية؛ وكانت الجريمة المحتملة التى لم يرتكبها المتهم بعد، هى التى أراد المشرع توقيها من خلال التدابير التى نص عليها؛ وكان ذلك من المشرع إحداثا لحالة إجرامية افترضها؛ وكان لادليل على قيام علاقة حتمية بين انغماس الشخص في جرائم سابقة، وبين ترديه فى حمأتها والعودة إليها من جديد؛ وكان مما يناقض افتراض البراءة أن يدان الشخص - لا عن جريمة أتاها وتتحدد عقوبتها بالنظر إلى جسامتها - بل بناء على محض افتراض بالإيغال فى الإجرام لايرتد المذنبون عنه أبدا، بل هم إليه منصرفون يبغونها عوجا؛ وكان لايجوز وفقا للدستور، أن يتعلق التجريم بخطورة أحدثها المشرع ولو فى نفس قابلة لها، ولا يتسم باليقين تعلقها بشخص معين، بل تقوم فى بنيانها على أن الجرائم التى ارتكبها من قبل، هى التى تشهد بحاضره، وينبغى أن تكون محددة مستقبلا لخطاه؛ وكان القول بأن مواجهة النزعة الإجرامية الكامنة فيمن حكم عليه أكثر من مرة، لازمهااتخاذ تدابير تتوقاها وترد سوأتها الإجرامية، مردود بأن محكمة الموضوع يكفيها أن تقدر بمناسبة الجريمة الأخيرة التى ارتكبها، جزاءها الملائم آخذة فى اعتبارها سجله الإجرامى؛ وكان لاينبغى أن يقرر المشرع - بالنص المطعون فيه - عقابا أكثر من مرة عن فعل واحد،بعد أن اكتمل القصاص فى شأن الجرائم السابقة جميعها، ودونما جريمة جديدة يُدَّعىَ وقوعها . وحيث إن النص المطعون فيه - وعلى ضوء ماتقدم - يقيد الحرية الشخصية بغير انتهاج الوسائل القانونية التي كفلها الدستور، ولايلتزم الضوابط التى رسمها في شأن المحاكمة المنصفة، ومن بينها افتراض البراءة كحقيقة مستعصية عن الجدل، وليس مبناه فعل أو امتناع يمثل سلوكا مؤاخذا عليه قانونا؛ وكان إيقاع أحد هذه التدابير التى تتوافر لها خصائص الجزاء - وحتى بافتراض جواز تقريرها اتصالا بالخطورة الإجرامية التى افترضها المشرع - يمتد زمنا قد يصل إلي عشر سنين بما يؤكد قسوتها، لتعطل حق المشمولين بها في النفاذ إلى ألوان الحياة وأشكالها فى مجتمعهم مع تضييقها لفرصهم في العمل، بما يعوق اندماجهم فى القيم التى يؤمن بها؛ وكان لايجوز بعد اتخاذ هذه التدابير -وبفرض جوازها- الرجوع عنها أو تعديلها بما يكفل تناسبها أو استمرار ملاءمتها للأوضاع المتطورة للحالة الإجرامية التى وسمهم المشرع بها؛ وكان المشمولون بتلك التدابير، مواجهين بها لايملكون دفعها، كلما قام الدليل على سبق الحكم عليهم واتهامهم جديا أكثر من مرة، مما يجردهم من وسائل الدفاع التى كفلها الدستور فى شأن كل جزاء جنائيا كان أم تأديبيا؛ وكان من المقرر فى شأن تدابير الدفاع الاجتماعى أن غايتها بلوغ أغراض بعينها تقتضى جهدا وصبرا ممتدا، فإن العدول عنها قبل أن تكتمل أهدافها، لايكون جائزاً، ولو لم يعد المشمولون بها من الخطرين
...
وحيث إنه متى كان ذلك، فإن النص المطعون فيه يكون مخالفا لأحكام المواد 13 و41 و 66 و 67 و 69 من الدستور.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص المادة 48 مكرراً من القانون رقم 182 لسنة 1960 فى شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة