Monday, August 19, 2019

الاحتيال على التلبس والواقعية القانونية




التلبس أو الجرم المشهود هو أحد أهم الموضوعات في قانون الإجراءات الجنائية/ الجزائية وهو موضوع فرعى له أصل وله مبادئ تحكمه من الناحية النظرية ومن الناحية العملية كذلك. إذا ما تم التغاضي عن الأصول القانونية والمبادئ الحاكمة لها، تحولت الممارسة العملية إلي فوضى لا يحكمها قواعد علمية منضبطة، ومن هنا كانت اللا دولة أو شبه الدولة التي يحذر منها الجميع. التلبس له نصوص تشريعية تنظمه، وهناك مبادئ قضائية توضحه، ومن مجموع النصوص والمبادئ يتكون القانون المنظم للتلبس أو الجرم المشهود. وتأتي الشروحات الفقهية لتشرح التلبس من الناحية القانونية، ليتمكن القاضي والشرطي والمحامي وغيرهم من تمييز ما يعد تلبس عما لا يعد كذلك. فإما أن هناك تلبس أو لا، حسب توافر شروطه. ما سبق أمر مفهوم ومستقر في الأحكام القضائية. التلبس إما أن تتوافر شروطه فهو صحيح، أو لا تتوافر شروطه فهو غير صحيح وغير مرتب لآثاره 

هذا لم يمنع من ظهور حالات عملية يحاول فيها الشرطي إستغلال قانون التلبس في غير أحواله، بل والزعم أن ذلك صحيح قانوناً تحت مسمى (الاحتيال على التلبس)، ومثاله ألا يتم ذكر الواقعة كما حدثت في محضر الضبط، فبدلاً من القول بأن دليل الإدانة تم العثور عليه في درج مكتب، يزعم الشرطي في محضره أن دليل الإدانة كان موضوعاً على سطح المكتب وظاهراً للعيان (نظراً مثلاً لأن إذن التفتيش لم يصرح للشرطي البحث في أدراج المكتب). لتوضيح ما سبق بمثال، افترض أن الشرطي حصل على إذن تفتيش مسكن شخص مشتبه فيه للبحث عن تلفاز مسروق، وبالتالي فإن الإذن لا يسمح للشرطي بالبحث في أدراج مكتب حيث لا يعقل أن يوجد التلفاز في درج المكتب، لكن رغم ذلك قام الشرطي بالبحث في درج المكتب ووجد قطعة من مخدر. لو أن الشرطي أوضح في محضره أنه عثر على المخدر في درج المكتب، فلن يتم إدانة المتهم، فيلجأ الشرطي إلي الكذب ويقرر عثوره على المخدر على سطح المكتب. أخطر ما في هذا الأمر أن الشرطي مقتنع أن ما قام به لا يخالف القانون فهو لم يلجأ إلي (اختلاق التلبس) ولكنه لجأ إلي (التحايل على التلبس). فالمتهم كان يحوز قطعة الحشيش بالفعل، ولم يدسها له الشرطي. الحقيقة أن ما فعله الشرطي مخالف للقانون، بل ويشكل جريمة في حد ذاته هي جريمة التزوير المعنوى، لإقراره في محضر رسمي بأمر مخالف للحقيقة، ولو أمكن للمتهم إثبات كذب الضابط (سواء بشهادة شهود أو بوجود كاميرات صورت الواقعة) فإن أي قاضي لا يملك إلا إدانة الضابط بجريمة تزوير في محرر رسمي 

القانون فيه أصل واستثناء يتم تفسيره على نحو ضيق. سلطة الشرطي في حالة التلبس هي سلطة استثنائية، والتلبس هو تطبيق لما يعرف بالضرورة الإجرائية، وذلك إذا ما توافرت شروطها. فإما أن هناك تلبس أو لا، وليس هناك ما يسمى إختلاق تلبس، وكذلك لا يوجد ما يسمى التحايل على التلبس، فهو في حقيقته تحايل علي القانون مجرم ومعاقب عليه، خاصة وأنه قد يفتح الباب لإساءة استعمال السلطة خاصة في الجرائم السياسية بتلفيق التهم. على القاضي دور مهم في فهم الواقعة التي تعرض عليه، فهو المسئول - أمام الله- عن تصحيح الفهم الخاطئ للقانون لدى الشرطي، وذلك من خلال تحقيقه للواقعة، لذا تعتبر المحاكمة -بحق- مرحلة التحقيق النهائي، وهو ما يعتبر نوعاً من أنواع التحليل الواقعي للقانون. هذا التحليل الواقعي للقانون يشمل حالات التطبيق الصحيح للقانون وكذلك حالات التطبيق الخاطئ للقانون. ولمحكمة النقض أحكاماً رائعة طبقت فيها هذا النوع من التحليل الواقعي للقانون، وإن لم تصرح بمسماه. من ذلك مثلاً حكمها الذي ناشدت فيه المشرع تعديل مادتين في قانون الإجراءات الجنائية تتعلقا بتصدي المحكمة لوقائع أو لمتهمين غير ما ورد بالدعوى المعروضة عليها لكن هناك صلة وثيقة بها. تناولت ذلك مسبقاً في مقال بعنوان (محكمة النقض وحوكمة العمل القضائي)، مع مراعاة أن هذا الحكم سابق على التعديل الذي أدخله البرلمان لاحقاً بما يسمح للدائرة الجنائية لمحكمة النقض من تنظر كل من القانون والموضوع. ولعل من المهم مقارنة ذلك بما قامت به محكمة جنح الاسماعيلية برئاسة القاضي خالد محجوب في قضية الهروب من سجن وادي النطرون