Monday, May 28, 2018

مقال قديم: تقويض الدور الخلاق لمحكمة النقض

تقويض الدور الخلاق لمحكمة النقض
المصري اليوم- الثلاثاء ١٢ يونيو ٢٠٠٧
  بقلم   المستشار مدحت محمد سعد الدين    ١٢/ ٦/ ٢٠٠٧
لمحكمة النقض دور الرقابة علي تطبيق محاكم الموضوع للقانون وصحة الإجراءات التي اتبعتها في نظر الدعاوي والحكم فيها، وهذا الدور أساسي في النظام القضائي لأي دولة، إذ هو السبيل إلي توحيد تفسير القانون وأسلوب تطبيقه علي امتداد إقليم الدولة وإزاء جميع الخاضعين لقضائها.
 ولهذا الدور طابعان «طابع سياسي وطابع اجتماعي»، ويتحقق الأول بما يتطلبه تنظيم الدولة من وحدة التشريع فيها، التي تعتبر أحد مقومات وجودها وضمان المساواة بين مواطنيها، وهذه الوحدة لا تتحقق بتطبيق نصوص واحدة في إقليم الدولة، وإنما بتفسير تلك النصوص علي النحو ذاته ووفق ضوابط واحدة أو متقاربة، وهو ما تقوم به محكمة النقض التي تحقق هذه الوحدة في التفسير، بما لها من دور الرقيب والمصحح لأخطاء قضاء الموضوع والرئاسة علي سائر المحاكم، بما يؤدي في النهاية إلي استقرار الأحكام القضائية، أما الثاني فيتحقق أيضًا لأن المحكمة مثلما تبطل الحكم الذي شذ عن الإطار العام للمبادئ القانونية المستقرة، فهي تعترف بالأحكام التي التزمت هذا الإطار وأدخلت بعض المرونة عليه ووضعت نواة للتطور الذي يصدر علي أساس اعتبارات اجتماعية حقيقية.
وقد اقتضي هذا الدور الخطير للمحكمة ذو الطابع السياسي والاجتماعي ألا يكون في الدولة إلا محكمة نقض واحدة تمثل وحدة السلطة، التي تكفل الاستقرار القضائي في هذه الدولة.
 وتلك حقائق وبديهيات ثابتة تأخذ بها سائر الدول المتقدمة في العالم. ومنذ أن استقر الأمر في مصر عام ١٩٣١ علي إنشاء محكمة عليا تحتل مركز الصدارة في النظام القضائي، قامت محكمة النقض بهذا الدور خير قيام علي مدار خمسة وسبعين عامًا، بما أصدرته من أحكام جليلة القدر، تشهد بسعة العلم ودقة الملاحظة وسلامة التقدير وسداد الرأي، جعلتها بحق قمة القضاء المصري وصرحه الشامخ التي كانت ولم تزل مصدر إشعاع دائم متواصل العطاء، يثري الفكر القانوني المصري والعالم العربي، بما أرسته وترسيه من مبادئ قانونية في جميع فروع القانون،
 حتي إن أئمة الفقه القانوني، وعلي رأسهم أستاذنا المغفور له الدكتور محمود نجيب حسني، قد كتبوا أبحاثًا مطولة وقيمة أشادوا فيها بالدور الخلاق لمحكمة النقض في تفسير وتطبيق نصوص القوانين المختلفة، ولم يكن ذلك منهم نوعًا من المدح والإطراء بقدر ما كان منطقًا وضرورة، اقتضت أن يكون للقانون معني واحد وأن يكون هناك سبيل لتوحيد القضاء في المسائل القانونية المختلف فيها صونًا لحسن سير العدالة وضنا بالأحكام القضائية من أن تعلق بها الشبهة والريبة، إذ ليس أضر بالعدالة من أن يختلف تطبيق القانون في المسألة ذاتها، تبعًا لاختلاف فهم القضاة معاني نصوص القانون المنوط بهم تطبيقه وفقًا لمعناه الذي قصده المشرع،
وهو مالا يمكن أن يتم إلا بتوحيد كلمة القانون بإسناد تلك المهمة لمحكمة واحدة هي محكمة النقض، وعلي الرغم مما سبق فإن المستقرئ للتعديلات التي تمت في قانون الأحكام العسكرية أو المقترحة في قانون الإجراءات الجنائية وقانون المرافعات المدنية يجد أن النية تتجه إلي تقويض دور محكمة النقض المشار إليه وعدم الاهتمام بالاعتبارات السابقة تارة بالنص علي إنشاء محكمة عليا للقضاء العسكري والقول بأنها تماثل محكمة النقض في القضاء العادي، وتارة أخري بالنص في قانون الإجراءات الجنائية علي إنشاء دوائر في محاكم الجنايات، تكون لها مهمة محكمة النقض في الطعن علي أحكام محكمة الجنح للمرة الثالثة، أو تقيد الطعن بالنقض بنصاب قيمي في البعض الآخر من الجنح المحكوم فيها بالغرامة بحيث لا يجوز الطعن فيها إلا إذا تجاوزت هذا النصاب، وتارة ثالثة بالنص في التعديلات المقترحة في قانون المرافعات علي تحديد نصاب قيمي للطعن بطريق النقض بحيث لا يجوز الطعن بالنقض إلا في المنازعات المدنية التي تزيد علي مائة وخمسين ألف جنيه
 وذلك كله بمقولة تيسير إجراءات التقاضي وحل مشكلة بطء التقاضي وتراكم الطعون المطروحة علي المحكمة، مع أن تيسير إجراءات التقاضي بما يؤدي إليه من سرعة حسم المنازعات وتحقيق العدل علي الوجه الصحيح هو الخطوة الأولي في طريق الإصلاح التشريعي في مصر، وهو مالا ينبغي أن يكون بتقييد الضمانات الأساسية للتقاضي والافتئات عليها ومنها الحق في الطعن في الأحكام، الذي كفله الدستور للمواطنين، لأن في هذا التقييد تضييقًا ظاهرًا يتعارض مع ضرورة أن يصل الحق إلي مستحقيه دون عوائق وينطوي علي كثير من المضار، من حيث توحيد القضاء وتثبيت فهمه علي معني واحد للقانون ويؤدي إلي حرمان عدد غير قليل من المتقاضين البسطاء من حقهم في الطعن علي أحكام قد تتردي في أخطاء جسيمة في القانون،
فضلاً عن مخالفة قواعد أساسية فنية في التقاضي، كقاعدة استنفاد بعض المحاكم في درجة من درجات التقاضي العادي لولايتها ومخالفة قواعد حجية الأحكام في الموضوع، مما يؤدي إلي تضارب الرأي القانوني ويخل بالثقة في أحكام القضاء، وينتقص من وظيفة محكمة النقض الأساسية وهي تقويم ما يقع في الأحكام من شذوذ في تطبيق القانون وتقرير القواعد القانونية الصحيحة فيما يختلف فيه من المسائل وتثبيت القضاء بها، بالإضافة إلي رفع ما تلحقه الأحكام المخالفة للقانون من الأذي والضرر بالناس بتمكينهم من الطعن فيها رجاء إلغائها. وكذلك لا يبرر السعي إلي تقليل عدد الطعون زيادة الأعباء المالية علي الطاعنين الواردة في نصوص قانون المرافعات المقترحة، ذلك أن العدل - علي ما جاء في المذكرة الإيضاحية لمشروع قانون المرافعات القائمه - كالخبز، حق محتوم لكل مواطن فلا يمكن أن يكون سلعة غالية أو بعيدة المنال، إذ ليس عدلاً ذلك الذي يرهق كاهل المستجير به المتطلع إليه بثمن غال يبذله صاغرًا.
 أما عن الزج بمحكمة النقض لتخوض في المنازعات الدائرة بين الخصوم وتتصدي للفصل فيها فإنه أمر جد خطير يتعارض بشكل ملحوظ مع وظيفة هذه المحكمة، وعدم اعتبارها درجة ثالثة للتقاضي، وهو مبدأ أساسي في النظام القضائي المصري لا يلين ولا يجوز التدخل فيه إلا لضرورة تقتضيه، مبينة ضوابطها حصرًا في كل من قانون المرافعات والإجراءات الجنائية. أما إمكانية القضاء علي الطعون المتراكمة بمحكمة النقض فقد قتلت بحثًًا بالجمعية العمومية للمحكمة في أدوار انعقادها المتواترة، وقدمت حلولاً كثيرة من المهتمين بالأمر فيها، بعضها عاجلة تضع محكمة النقض ضوابطها دون قانون، والأخري آجلة تتطلب تدخل المشرع بقانون كعدم ضم ملفات الدعاوي أثناء نظر الطعون المطروحة علي المحكمة والتي تعتبر العائق الأكبر في نظر تلك الطعون، لما تستغرقه من وقت طويل في ضم تلك الملفات،
 علمًا بأن هذا الحل كان موجودًا في قانون المرافعات السابق وألغي في القانون القائم بلا مبرر، ومن الحلول التي تستلزم تدخل المشرع توسيع دور نيابة النقض ليشمل سلطة إصدار القرارات بعدم القبول لنوعيات محددة من الطعون، وكذلك الاكتفاء برفع الاختصاص القيمي للمحاكم الجزئية لنظر الدعاوي التي تصل قيمتها إلي خمسين ألف جنيه وغيرها من الحلول الكثيرة التي قدمت ولم يلتفت إليها، والغريب في الأمر أن تصدر تعديلات مقترحة في خصوص الطعن بالنقض وتقدم من وزارة العدل دون أخذ رأي الجمعية العمومية لمحكمة النقض.
 فهل يمكن القول بعد ذلك بأن تلك التعديلات سوف يترتب عليها حل مشكلة تراكم الطعون في المحكمة أم إنها مجرد تعديلات تصدر بها قوانين، قد لا تؤدي إلي حل المشكلة بل تفاقمها، بما تنطوي عليه من إخلال بالقواعد الأساسية في التقاضي ونصوص الدستور التي تستمد منها تلك القواعد وتفويض الدور الخلاق لمحكمة النقض في توحيد كلمة القانون الذي استمر ما يزيد علي خمسة وسبعين عامًا؟!
نائب رئيس محكمة النقض