Wednesday, August 15, 2018

الوعي الرسمي بأهمية الابتعاث الدولي في مجال القانون- تجربة حقوق الاسكندرية




علمت من صديق لي أن هناك من يرى في تجربة حقوق الأسكندرية في الابتعاث الدولي من مواردها الذاتية سلبيات عديدة،  لذا أردت توضيح بعض النقاط. بداية، التجربة المشار إليها هي قرار أتخذه مجلس كلية الحقوق بجامعة الاسكندرية عام ٢٠٠٨ ووافق عليه مجلس جامعة الأسكندرية، في ظل إدارة العميد الأستاذ الدكتور الفاضل والمحبوب والمحترم أحمد هندي. وسبب صدور القرار هو أن الكلية عانت ولفترة طويلة من استقالة معاوني هيئة التدريس (الشباب حديثي التعيين من أوائل الكلية) منها والالتحاق بالهيئات القضائية، ويمكن تتبع استقالات بعض المعينين من دفعات أعوام ١٩٩٧ إلي  ٢٠٠٤ للتدليل على ذلك كمثال. يرجع السبب الرئيسي في ذلك لعدم توافر فرص للسفر للحصول على درجة الدكتوراه من جامعات أجنبية 

ومن المهم ملاحظة أن السفر ليس فسحة كما يعتقد البعض، ولكنه فرصة ذهبية للنابغين في القانون لتنمية مهارات عديدة واكتساب معرفة قانونية حديثة تتواكب مع العصر، ونقل تكنولوجيا قانونية متطورة إلي مصر، وكل هذا يدخل تحت عنوان أهمية القانون المقارن الذي نقوم بدراسته وتدريسه. فالقانون ما هو إلا مجموعة وسائل لتنظيم العلاقات في المجتمع، منها وسائل تقليدية عفا عليها الزمن، وأصبحت غير ذات جدوى، ومنها وسائل حديثة تتطور باستمرار. وفائدة السفر ليست فقط في التعرف على الوسائل المتطورة الحديثة، وإنما أيضاً تعلم كيف وصلت هذه المجتمعات الي تطوير ما لديها من وسائل، أي تعلم تطوير التكنولوجيا القانونية وليس فقط مجرد نقل تكنولوجيا قانونية متطورة. ويكفى مثلاً تتبع السيرة الذاتية للقانونيين الذين تولوا مناصب فنية متخصصة مثل الدكتور زياد بهاء الدين (هيئة الاستثمار وهيئة سوق المال ومجلس الوزراء) والدكتور هاني سري الدين (هيئة سوق المال) والدكتور خالد سري صيام (الرقابة المالية والبورصة) والدكتور أمير نبيل (جهاز حماية المنافسة)، وغيرهم، لمعرفة أهمية دراسة القانون المقارن والدور الهام الذي تساهم فيه دراسة القانون المقارن في الخارج في خدمة الدولة المصرية 

المهم، أن هذه المشكلة عانى منها أيضاً معاوني هيئة التدريس بحقوق القاهرة، واستطاعت حقوق القاهرة ان توفر لهم حلاً يتناسب مع عددهم الكبير ومواردها المالية المحدودة، فقرر مجلس كلية حقوق القاهرة منح عشرة آلاف دولار للراغب في السفر لتجميع المادة العلمية. المبلغ قطعاً ضئيل، وكاف فقط للسفر وقضاء أقل من سنة في قراءة وتجميع مادة علمية، ثم العودة لمصر وكتابة الأبحاث في بيئة غير مشجعة على الكتابة ولا البحث العلمي، وتقييم هذه الأبحاث في بيئة تتأثر بإعتبارات أخرى شخصية لا تتعلق بعمل الباحث وإنما بعلاقات الباحث في مكان عمله ومعارفه ومواقفه وانضمامه لحزب أو لآخر داخل الجامعة. ولا يكفي المبلغ للحصول على الدرجة العلمية من الخارج، لأن القيد بمرحلة الدكتوراه مكلف ويستدعي -غالباً- القيد في مرحلة الماجستير في الخارج- وهو أيضاً مكلف

ولحسن الحظ، وفي تعاون بين وزارة التعليم العالي وحقوق القاهرة (في ظل إدارة العميد الأستاذ الدكتور المحترم/ أحمد عوض بلال) وحقوق الاسكندرية (في ظل إدارة العميد الأستاذ الدكتور المحترم/ أسامه الفولي) والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، تم توفير تمويل من المعونة الأمريكية عام ٢٠٠٨ لابتعاث مجموعة كبيرة من معاوني هيئة التدريس في الجامعتين للحصول على درجة الماجستير والاستعداد لقيدهم بدرجة الدكتوراه في القانون عام ٢٠٠٩ إن أمكن توفير تمويل لهم. لم يمكن توفير تمويل الدكتوراه من خلال المعونة الأمريكية إلا لباحث واحد من القاهرة وباحث واحد من  الاسكندرية، فتم إعمال معيار الأقدمية فيما بين الحاصلين على الماجستير عام ٢٠٠٨، فسافرت كباحث من جامعة الاسكندرية مع علمي أن التمويل متاح لعام واحد فقط لا غير للسنة الأولى من دارسة الدكتوراه 

وفي اطار بحثي وبحث زملائي عن فرص لتمويل كامل للدكتوراه، عرضت مع معاوني هيئة التدريس بحقوق الاسكندرية على إدارة الكلية وعلى الاستاذ الدكتور العميد/ أحمد هندي اقتباس الفكرة المطبقة فعلاً في حقوق القاهرة، مع تطويرها بما يناسب موارد حقوق الاسكندرية، ويناسب احتياج حقوق الاسكندرية الشديد لحافز قوي يشجع المعينين حديثاً على البقاء في الكلية وعدم التفكير في الاستقالة والالتحاق بالهيئات القضائية. وفعلاً، سافرت إلي القاهرة بناء على تكليفي بذلك، وأتاحت لي حقوق القاهرة تفاصيل البرنامج الذي تطبقه وموافقة مجلس الكلية ومجلس الجامعة، وتم عرض الأمر على مجلس حقوق الأسكندرية، وتم إتخاذ القرار بتمويل الدكتوراه لمدة ثلاث سنوات، وساعد على ذلك أن الكلية -مثلها مثل حقوق القاهرة وغيرها من كليات الحقوق- لديها حساب بنكي خاص بالدراسات العليا وبه مخزون من النقد الأجنبي الذي يدفعه الطلاب الأجانب الذين يدرسون بها، وبالتالي لم يتم تحميل وزارة المالية أو وزارة التعليم العالي بشئ. واستمر تطبيق هذا البرنامج، وتشكلت لدى الكلية نواة لأعضاء هيئة تدريس من الشباب الذي درس في الولايات المتحدة الأمريكية وفي فرنسا، واجتازت حقوق الاسكندرية محنة كادت أن تؤثر في مستقبلها، وهو ما يتأكد إذا ما لاحظنا ضآلة العدد الحالي لأعضاء هيئة التدريس بها وتقسيمهم، حسب الدرجة العلمية وحسب السن إلخ 

كل ما سبق مهم لفهم أهمية البرنامج عند تقييمه، لكن الأهم من ذلك هو الرد على ما يزعمه البعض من وجود شبهات فساد بالبرنامج، ويرى أن هدفه كان إتاحة فرص السفر لأبناء الأساتذة بالكلية، وبالتالي يجب وقفه. وهذا الزعم غير صحيح على الإطلاق، فقد شهدت أنا شخصياً البرنامج منذ نشأته واستفدت منه، وأعلم تماماً آلية التعيين في الجامعات، وأعلم أيضاً التنافس الشديد بين الأوائل للتعيين فيها وهو تنافس يستمر على مدار سنوات أربع، وأعلم تماماً من أستفاد من البرنامج (ومنهم شباب أفاضل أبناء أساتذة علماء أفاضل بالكلية، ومنهم شباب أفاضل غيرهم -وهم الأغلبية- حتى ولو اعتقد البعض غير ذلك لتشابه الأسماء)، وأعلم تماماً انطباق المعايير الموضوعية عليهم في التعيين في الكلية وفي استيفاء شروط الاستفادة من البرنامج، وأهمها الحصول على خطاب قبول بجامعة أجنبية معتبرة 

الخلاصة، هناك شروط موضوعية تحققت فيمن استفاد من البرنامج، وطبقتها جامعة الأسكندرية (في كل حالة طلب تمويل معروضة عليها على حدة) كما طبقتها جامعات أجنبية مرموقة (في كل حالة طلب القيد في الدراسات العليا معروضة عليها على حدة) مثل هارفارد وجورج تاون وجورج واشنطن وانديانا وكنساس وواشنطن وكاليفورنيا بيركلي وكورنيل وتولان وجولدن جيت إلخ. أقول ما سبق، لأن البرنامج توقف ويحاول البعض أن يبرر ذلك بأنه لم يجد إجابة لتساؤلاته عن مدى الحاجة للابتعاث الدولي في مجال القانون، وما مدى أحقية المستفيدين في الاستفادة من البرنامج، ولماذا تستفيد كلية واحدة من أموالها التي تحتاجها باقي الكليات ذات الموارد المالية الضعيفة مثل كلية الزراعة والعلوم إلخ 

أتمنى أن يستمر البرنامج، وأقولها وأن متيقن تماماً أنه لولا هذا البرنامج، لفقدت مصر أحد أدوات قوتها الناعمة المؤثرة في محيطها الأقليمي والدولي وأحد أدوات مصر في الدفاع عن أمنها القانوني القومي، ولضاع جهد علماء أفنوا حياتهم في بناء هذا الصرح العلمي. ويكفي تتبع النشاط العلمي الذي قام به هؤلاء المبتعثين خلال إبتعاثهم، وما يقومون به عقب عودتهم. وأتمنى مراعاة الدقة عند تقييم مثل هذه البرامج، وأتمنى أن نشجع الكليات ذات الموارد المالية الضعيفة على تطوير مواردها بدلاً من الإتكال على موارد ينفقها جامعها على ما يعتبره مسألة حياة أو موت، ومسألة أمن قومي لمصر، وفي ذات الوقت هي مسألة استثمار لجذب طلاب أجانب أكثر ونقد أجنبي أكثر مما تم إنفاقه، والله أعلم 


موضوعات ذات صلة
Alexandria University Mooting Club- AUMC
التجريم الاقتصادي مدخل للعدالة الاجتماعية
ندوة عن مشروع قانون الإستثمار