هل ينبغي علينا كمصريين أن نغير ثقافتنا المتعلقة بموارد دخلنا؟ نعم، على - الشعب- والحكومة طبعاً- تغيير هذه الثقافة
نقطة البداية هنا هي أمرين
الأمر الأول هو الأسئلة التي وجهها الرئيس السيسي إلي محافظ القاهرة، والتي تعلق بعضها بموارد دخل محافظة القاهرة، وأعتقد أنها سابقة محمودة مهمة جداً جداً، وأتمنى أن تستمر هذه السنة الحسنة وتمتد لمجلس النواب ليعقد جلسات إستماع ليدقق ويحقق ويفتح المجال للأجهزة الرقابية لتراقب
والأمر الثاني هو مقال منشور في موقع المصري اليوم عام ٢٠٠٩ وأحاول جاهداً أن اعرف كاتبه لنعطه حقه في نسبة مقاله الجميل له، والمقال بعنوان الثقافة الريعية (١٧ فبراير ٢٠٠٩)، وننقله هنا من باب التيسير على القارئ وخشية أن يتم حذفه بالخطأ في المستقبل
(1)
بعيدًا عن الجانب الجنائى فى أزمة
استحواذ البعض على مال وفير عن طيب خاطر من البعض الآخر وتشغيله فى مجالات
غير معروفة بدقة، نظير فوائد مهولة شهرية.. وبعيدًا عن الجانب الاقتصادى
الفنى الذى يطرح السؤال المشروع ما هى المجالات التى من شأنها أن تدر هذه
العوائد شهريا، والتى تصل إلى 1000% (نعم 1000%).. بعيدا عن هذا وذاك..
يعرف
هذا النمط من العمليات الاقتصاديةـ تجاوزاـ بالاقتصاد الريعى.. والاقتصاد
الريعى هو اقتصاد يعتمد على إعادة تدوير العائدات الطبيعية مثل النفط مثلا،
بحيث يحصل عليها البعض الذين بدورهم يقومون بأنشطة ذات طابع عقارى وتجارى
ومالى وخدمى بالأساس..
وتنتعش هذه الأنشطة غير الثابتة أو
مستقرة السوق فيعمل البعض على تجميدها فى ممتلكات سعيًا إلى غلو ثمنها أو
وضعها فى البنوك للحصول على فوائدها.. أو الجرى وراء من يعطى الفوائد غير
المبررة كما رأينا فى كثير من الحالات منذ الثمانينيات.. إنه اقتصاد «قدرى»
يعتمد على هبات طبيعية، بداية، وإعادة تدوير المال الناتج بعيدا عن أى عمل
منتج زراعى أو صناعى أو تكنولوجى متقدم.. حيث يوضع المال لدى أفراد وبعيدا
عن أى جهد أو انشغال بكيفية الاستثمار الأمثل الذى يمثل إضافة للاقتصاد
الوطنى.
للإيجاز- فى كلمتين- إنه الجرى وراء الثراء الشخصى السريع من
خلال التراكم المالى الفردى (الذى لا تتحقق معه فكرة المواطنة وربما نفسر
ذلك فى مقال آخر).
(2)
ولأن الظاهرة تكررت مرات عديدة على مدى
العقود الأخيرة فإنه من الأهمية إدراك أن ثمة أمرا خطيرا قد طال التشكيلة
الاجتماعية الاقتصادية المصرية من جهة، والثقافة التى تعبر عنها.. فإذا كان
أحد الاقتصاديين قد أشار إلى أن الاقتصاد الريعى موجود فى كل البلدان وفى
كل الاقتصادات،بيد أن الإشكالية هى أنه إذا زادت نسبته على حد معين فهنا
يكون مصدر الخطر. فالمجتمعات التى تعتمد على الريع هى مجتمعات مهددة بالخطر
أكثر من التى تعتمد على اقتصاد تتراكم فيه الثروة من خلال الإنتاج الزراعى
والصناعى والتقنى وعلى الإبداع.
إن ما طال التشكيلة الاجتماعية
الاقتصادية المصرية يحتاج إلى تحليلات معمقة ومتنوعة خاصة فيما يشمل
التداخل بين الطبيعة الاقتصادية للدولة والاقتصاد القائم، وما هى طبيعة
العلاقات القائمة بين الرأسماليات التقليدية والجديدة والريعية.. ولماذا
الغلبة تكون واضحة للمضاربات وتجارة الأراضى على حساب أمور أخرى.
(وهنا نشير إلى دراسات مبكرة لمحمود عبدالفضيل وحازم الببلاوى وربما نحتاج إلى استعادتها).
أما عن الجانب الثقافى فإن أخطر ما تفرزه هذه الظاهرة ما يمكن تسميته «الثقافة الريعية»، حيث تنظر للريع الذى تتحصل إليه كونه:
* رزقًا،
هبة، منحة، فهو ليس نتاجا لعملية إنتاجية، أو عمل إنسانى منظم، وكجزاء على
الجهد أو مقابل تحمل المخاطر، (بحسب الببلاوى).
ولأن المال يأتى
بهدوء ويسر فلابد من البحث عن دورة أخرى تأتى بمزيد من المال بهدوء
ويسر..إنه عكس الاستثمار الاقتصادى الصناعى الذى يعتمد على ضرورة تطوير
المنتج، ومن ثم توفير المال للبحث والتطوير والإبداع.
(3)
إن
الثقافة الريعية ثقافة: مستكينة،تقليدية غير مبدعة، تعتمد على شبكة علاقات
تعتمد العلاقات الأبوية من قرابة دم أو ثقة أو مصالح ضيقة بين البيروقراطية
ومروجى الاقتصاد الريعى، إنها الأبوية (الجديدة كما أوضحنا فى مقالنا
الأخير) حيث العلاقات الاقتصادية ليست بين مؤسسات ووفقًا للتعاقدات الحديثة
وإنما وفقًا للعلاقات الشخصية أو الوساطة أو.. وهو ما يقف أمامها القانون
بأحكامه وأدواته عاجزا عن البت فيما يترتب عليها من إشكاليات.
لذا
ليس غريبا أن تتراجع مفاهيم التنمية إلى مفاهيم الموجة الأولى حيث «الخيرية
أو التبرعات» لتلبية احتياجات الفقراء.. لا أكثر ولا أقل.. وكيف يمكن أن
يتم تبنى مفهوم التمكين مثلا فى المجال التنموى إذا كان الاقتصاد السائد
يميل إلى الريعية.. إنها حلقة خبيثة ولاشك
المسألة التي ينبغي الإهتمام بها أن هذه الثقافة مازالت سائدة سواء في الأوساط الحكومية أو الأهلية، قد نستدل على ذلك بما يقوم به البعض من اقتطاع جزء من كل ليؤول إليه، وينتفع به وحده. طبق ذلك على بعض الجهات الحكومية، وطبق ذلك أيضاً على بعض الممارسات السلبية في الشارع، كالسايس الذي يضع حجارة ليؤجر ركنات السيارات، والمحال التي تضع بضاعتها على الرصيف المخصص للمشاة الذين لا يملكون إلا مزاحمة السيارات في الطريق المخصص لها، والمشاة الذين يصرون على العبور في الدقائق القليلة التي يتم فتح الإشارة فيها لعبور السيارات في تقاطع ما، وفي النوادي الإجتماعية التابعة لجهات عامة وخاصة والموجودة على شاطئ الإسكندرية وعلى ضفاف نهر النيل. المشكلة أن ذلك يحدث بطريقة أصبح الجميع يراها عادية بل ومشروعة
تخيل معي طريق من ثلاث حارات يمر بجانب ممر مائي. الطريق فيه خطوط بيضاء تفصل بين حاراته. وفي كل حارة سيارة ينبغي على صاحبها احترام نفسه واحترام الآخرين بأن يلزم حارته. اصبحت ثقافة شائعة أن عند المنحنيات، السائق في الحارة اليمنى -بدلاً من أن يحترم حارته- سيميل على الحارة الأوسط، وبالتالي يجبر سائق الحارة الوسطى على أن يميل على الحارة اليسرى، فلا يملك السائق في الحارة اليسرى إلا أن يسقط في المجرى المائي أو يسرع رغم الخطر والمنحنى، أو أن يؤخر نفسه بسبب خطأ لا ذنب له فيه. لو أعترضت، تجد من يقول: عادي.. العربيات بتريح في المنحنيات وانت عمل حسابك على كده. بل وتجد من يربطها بنظرية علمية ليقنعك بأن هذا شئ طبيعي حتى في الدول المتقدمة، ودارسو الإقتصاد يطلقون عليه: تأثير العوامل الخارجية
Externality
لا تصدق كل ما يقال لك. شغل مخك وأقرأ
علينا التخلص من هذه الثقافة وإلا أستمرت مصر في طرد أبنائها. لا تصدق من
يقول أن الهجرة هرب من فقر الموارد في مصر، بل هي غضب من نهب الموارد في مصر. دائما ستجد من يميل ويخرج عن حارته المخصصة له والمرسومة بخطوط بيضاء على الأرض. خروجه عن حارته، سيؤثر سلباً ليس فقط على جاره في الحارة المجاورة بل على ثقافة المجتمع كله، فيصبح الخطأ شائع، ويصبح من ينادي بالصواب مجنوناً أو أفندياً متفزلكاً، ويصبح الأمر كما هو الآن: كل مصري حاطط يده في جيب زميله
أتمنى أن يهتم القضاء - وليس المحكمة الدستورية العليا وحدها- بضوابط التعامل الحكومي مع المواطن كمستهلك، وضوابط خروج بعض الأجهزة الحكومية عن حارتها الدستورية (وهو أمر له سوابق عديدة في القانون المقارن
الخلاصة، كلاً من الثقافة الريعية وثقافة الترييح على جارك لابد من التخلص منهما في أسرع وقت. والله أعلم