Monday, March 26, 2012

عن صناعة دستور الجمهورية الثانية 1


توشك عملية صناعة دستور جديد لمصر ان تبدأ، وتصادف ان تابعت ثلاثة مواقف مؤخراً ارتبطت في ذهني-بدرجة او بأخرى- بمستقبل الدستور في مصر. الاول تعلق بالصنعة الدستورية كعلم وفن، الثاني تعلق بالتجربة الدستورية المصرية و، والثالث تعلق بدور الاسلام في الدستور كقيمة وكهوية.
قامت روث جينيزبرج القاضية بالمحكمة العليا الامريكية بزيارة مصر مؤخراً والتقت مع عدد من قضاة محكمتنا الدستورية العليا، كما قامت بإجراء حوار تليفزيوني مع قناة الحياة، ابدت فيه عدة آراء انتقدها فيها العديد في الولايات المتحدة الامريكية. اعلنت القاضية صراحة انها لا تنصح المصريين بالرجوع الي الدستور الامريكي كمرجع اساسي لهم في صياغتهم لدستورهم، فرغم قيمته التاريخية بإعتباره الوثيقة الدستورية الاقدم في العالم التي مازالت نافذة حتى الآن، إلا انه من الناحية العملية هناك وثائق دستورية معاصرة –مثل دستور جنوب افريقيا والميثاق الاوروبي لحقوق الانسان- استفادت من وثائق اخرى وتجنبت عيوبها. لذلك، من الافضل ان يستفيد المصريون من آخر ما توصل اليه العلم الدستوري في العالم. تصريح القاضية الامريكية بشأن صناعة الدستور بإعتبارها علم يتقدم ومن المهم منابعة تطوراته مفيد، لكن الاكثر افادة هو تصريحها عن حماية الدستور بإعتبارها واجب وطني لا ينبغي التفريط فيه. اكدت القاضية على اهمية دور الشعب نفسه في حماية القيم التي ينبغي ان يتضمنها الدستور، فلو كانت صحوة الشعب مؤقته لحماية حقوقه وحرياته، كانت تلك الحقوق والحريات مجرد حبرا على ورق اذا ما تكاسل الشعب عن حمايتها فيما بعد، او اذا ما تقاعس عن حماية المدافعين عنها افرادا ومؤسسات. الملاحظة الاخيرة توضح ان الاستفادة من العلم الدستوري في العالم المعاصر مهم، لكن الاكثر اهمية هو التعلم من الاخطاء التي شهدتها التجربة الدستورية المصرية في الفترة الماضية.
كتاب "وصيتي لبلادي" للراحل الدكتور ابراهيم شحاته يعد من اهم المراجع التي تقوم بتقييم علمي لدستور 1971 مقارنته بعدة دساتير تمثل نواة العلم الدستوري المعاصر. طالعت الكتاب عدة مرات مؤخرا، واراه يعبر بصدق عن قيمة دستور 1971 وعيوبه. الباب الخاص بالحقوق والحريات العامة في دستور 1971 يمثل ارقى ما توصل اليه العلم الدستوري حينما تمت صياغة هذا الدستور. لكن بما تمت اضافته بعد تسلمه (بمعزل عن لجنة اعداد الدستور وبدون محاضر اجتماع توضح اسباب الاضافة)، اصبح نفاذ هذا الباب مرهونا بإعتبارات اخرى. وامسى الدستور وثيقة نظرية تحاول المحكمة الدستورية العليا حمايتها على استحياء اعتمادا على النص الدستوري الذي ينص على استقلالها (مادة 174). لكن المواد التالية لهذا النص (175- 178) انتقصت عمليا من هذا الاستقلال، ولم تسلم المحكمة نفسها من التدخل في شئونها وفي تشكيل هيئتها والدخول في صدام مكتوم مع الرئيس والبرلمان. الدرس الذي ينبغي ان نتعلمه هنا ان نصوص الدستور هي مجرد حبر على ورق ان لم تجد من يتعهد بحمايتها، وان المؤسسات ابقى واجدى في حماية القيم والمبادئ من الوعود السياسية الانتخابية، وان حماية استقلال هذه المؤسسات واجب وطني مقدس. وبمناسبة الحديث عن المؤسسات الحامية للقيم والمبادئ، آن الآوان للحديث عن حساسية المركز الذي سيمثله الاسلام -كقيمة عالمية قبل ان يكون عنصراً في الهوية المصرية- في الدستور المصري القادم.
استضافت اسرة القانون الدولي بكلية القانون بجامعة كنساس البروفيسور هنري ستاينر استاذ القانون بجامعة هارفارد، ليتحدث عن كتابه الجديد "المسلمون في اوروبا Muslims in Europe". من قبيل الاحتفاء بالضيف، قامت مجموعة من باحثي الدكتوراه –جميعهم مسلمين- بدعوة البروفيسور ستاينر للغذاء وللتعارف. رغم السن المتقدم، كان البروفيسور في كامل لياقته الفكرية ليعرض آراءه بسلاسه وليستمع الى ملاحظاتنا ويفند حججه. بدأ الحوار بالحديث عن الاسلام في اوروبا لكنه سرعان ما انتقل الى الاسلام في امريكا ثم في الشرق الاوسط. لا مجال هنا لإستعراض تفاصيل الحوار لكن هناك ملحوظة هامة ينبغي الاشارة اليها ونحن مقبلين على صياغة دستور جديد لمصر سيتطرق بصورة او بأخرى للمركز القانوني للإسلام في الجمهورية المصرية الثانية. العالم تغير وتغيرت معه الرؤية التقليدية للقانون الدولى في الاسلام بتقسيم الدول الي دار سلم ودار حرب فقط. هناك دار دعوة تتسع رقعتها، وهناك من يعكف على دراسة فقه الاقليات المسلمة في دول الاغلبية غير المسلمة لمقارنته بفقه الاقليات غير المسلمة في دول الاغلبية المسلمة، وللتأكد من مطابقه الواقع العملي للأفكار النظرية. مصر من الدول التي شاء القدر ان تساهم في خدمة الاسلام والمسلمين بحظ وافر، والازهر الشريف –وهو مقبل على اصلاح مؤسسي ضروري- قادر على رعاية القيم والمبادئ الاسلامية بفكر علمي راق مستقل عن السياسات والمزايدات الحزبية.
خلاصة القول، صناعة الدستور علم وفن، ونحن بحاجه الي متابعه تطوراته في العالم، والي فهم اخطاء التجربة المصرية الماضية، ومنها قدرتنا على حماية الدستور. حماية الدستور واجب وطني مقدس، لا يتم الا بحماية القيم والمبادئ الدستورية وحماية المدافعين عنها، ليس فقط الافراد، بل المؤسسات –وعلى رأسها المحكمة الدستورية- فهي ابقى واجدى من الافراد ومن الوعود الانتخابية في حماية القيم والمبادئ. اخيرا، الاسلام قيمة ورسالة عالمية قبل ان يكون عنصر في الهوية الوطنية لمصر، والازهر الشريف منارة فكرية قادرة على حماية القيم والمبادئ الاسلامية في مصر ونشرها في دار الدعوة اذا ما ضمن لها الدستور القادم الاستقلال المؤسسي والحرية الاكاديمية بعيدا عن السياسات والمزايدات الحزبية.