Friday, March 18, 2011

لمصر لا للمحكمة الدستورية


هذا المقال دعوة لنصرة سيادة القانون اساس اي ديمقراطية ناشئة في مصر، فالديمقراطيات لا تنبني بالنوايا الحسنة للشعب، ولا بالتحرك العشوائي في جميع المجالات والاتجاهات، وانما ببناء مؤسسات سيادية هى حجر الاساس في اي ديمقراطية، وفي صيانة هذه المؤسسات مما يعتريها على مدار الزمن من فساد او افساد. وسيادة القانون هي ضمان يقظة الشعب لحماية مؤسساته بإعمال حقه في التقاضي، فإن تم اهدار سيادة القانون واصبح التقاضي بدور العدالة غير ذي جدوى، كان التظاهر والعصيان المدني في الشارع هو الاجدى والانفع.

قبل يناير 2011، شهدت مصر سيادة القانون اسما بلا مضمون، وبلغ اهدار سيادة القانون ذروته في نص قرار التخلي عن السلطة. ورغم نصيحة مصدر قضائي بالمحكمة الدستورية للنظام السابق عبر جريدة الشرق الاوسط في 5 فبراير 2011 باستخدام المادة 74 او المادة 139 من الدستور في انتقال السلطة تجنبا لتعريض الدولة والشعب للفتنة والخطر المحدق، لم يتم استخدام ايا من المادتين. وتعرضت الدولة المصرية لفجوتين الاولى امنية والثانية دستورية. واحقاقا للحق، لم تتوان المؤسسة العسكرية في بذل كل جهدها لسد الفجوة الاولى، وبذر نواة الاصلاح الدستوري المطلوب، ليعود الجيش –بإنتهاء المدة الانتقالية- ساهرا على قوة سلاحه إزاء ما يحدث على حدوده، وفي منابع نيله.

واحقاقاً للحق ايضا، فإن الدور الاكبر لسد الفجوة الدستورية يقع على عاتق مؤسسات العدالة، ولا مفر من التزامها مستوى رفيع من الاداء المهني والحس الوطني. ولعل النظر الي احد التعديلات الدستورية المقترحة بإعتباره "سلبا لاختصاص دستوري مقرر لمحكمة النقض دون مبرر" هو نفسه مدخلا لفتنة بين مؤسسات العدالة لا مبرر له. ولعل الاسرة القضائية خير من يدرك ان المحكمة الدستورية –وعصرها الذهبي ليس ببعيد- قد سطرت احكاما مازالت تاجا على جبين القضاء المصري، ورفعته الي مصاف الانظمة القضائية المرموقة في العالم.

وفي حياة الامم، فإن اصعب ما يواجه المجتمع هو فترات العصيان المدني، والانتخاب او الاستفتاء، وانتقال السلطة. والشعب المصري ليس اول ولا آخر شعب يواجه الثلاثة مجتمعة. اضف الي ذلك وجود فجوة دستورية، لم يتردد البعض في استثمارها بإعمال حقه في التقاضي اعتراضا منه على الاستفتاء القادم، وهو حق مشروع له طالما هدفه تأكيد العدالة لا عرقلتها. ولنا في تجارب الامم دروسا نتعلم منها. والجامع بين الديمقراطيات الناجحة هو وجود عدالة سريعة ناجزة تنهي النزاع الانتخابي من جميع جوانبه، وبحكم ملزم للكافة: فرادى ومؤسسات. ولعل الحق في الترشح والحق في الانتخاب هما اكثر الحقوق الدستورية انتهاكا على مدى زمن طويل، لذا امست الحاجة الي توحيد جهة الفصل في المنازعات الانتخابية البرلمانية –وكذلك الرئاسية ومنازعات الاستفتاء- ماسة اكثر من ذي قبل.

وبإعتبار ان مهمة المحاكم العادية (وعلى رأسها محكمة النقض) اضفاء العدالة على الانشطة الخاصة للمواطنين، وباعتبار مهمة محاكم مجلس الدولة (وعلى رأسها المحكمة الادارية العليا) اضفاء العدالة على معاملات الدولة كسلطة اداره مع المواطنين، فقد آن الأوان لنعهد الي المحكمة الدستورية بمهمة اضفاء العداله على معاملات الدولة كسلطة حكم مع المواطنين وبالتالي حماية مؤسسات مؤسسات الدولة الرسمية والاهليه خلال قيامها بمسئولياتها الدستورية، وبالتالي حماية الديمقراطية المصرية البازعة وتنقية الحياة السياسية المصرية مما شابها من اهدار مزمن لسيادة القانون.

والتجارب الماضية تؤكد ان الاستثمار الانفع والاجدى هو في المؤسسات المستمرة لا في الافراد، وان المبادئ الدستورية ابقى واجدى من الوعود الانتخابية، ولم يخل مجتمع ديمقراطي من محاولات اختطاف السلطة "بالقانون"، وبالتالي لا مفر من التصدي لتلك المحاولات "بالدستور". ولعل الجدل الدستوري الذي تشهده الولايات المتحدة حول حدود التبرعات المالية الانتخابية خير دليل على ذلك. ومهما طالت الفترة الانتقالية، فإن علاج المؤسسات المدنية المصرية لن يتأتى بقوة السلاح او بقوة العصيان، وانما بقوة القانون. وبغير قوة القانون، تمتزج الروح الاصلاحية بالروح الانتقامية، وتختلط المطالب الوطنية بالمطالب الفئوية، ويتصدع السلام الاجتماعي فتكون فتنة وطنية.

والمحكمة الدستورية المصرية بطبيعتها هي الحصن الاخير للسلام الاجتماعي وهي قمة الاجتهاد القضائي، ففي منطقها تمتزج المبادئ القانونية بالحقائق المجتمعية والسياسية وبأهداف التنمية الوطنية، وتشكيل قضاتها مزيجا من خيرة ابناء مؤسسات العدالة المختلفة، وكانت قلة عدد اعضائها وازعا لاستقلالها ومانعا لاختراقها سياسيا خلال عصرها الذهبي، ومازالت لاحكامها –من حيث المبدأ- حجية مطلقة تلزم كافة مؤسسات الدولة.

في عصرها الذهبي، ظلت المحكمة الدستورية الملجأ الاول والاكثر فاعلية للجماعات السياسية وحركات حقوق الانسان والناشطين السياسيين بإعتبارها المؤسسة الوطنية الوحيدة القادرة على كبح لجام السياسات الرسمية الضارة، وبالتالي كبح جموح النظام السابق بطريقة غير مباشرة، فلجأت اليها الاحزاب السياسية للطعن في عدة قوانين انتخابية ظالمة وعدة قوانين مقيدة لممارسة العمل السياسي، ولجأت اليها جماعات حقوق الانسان للإرتقاء بمعايير حقوق الانسان والدفاع عن حقوقه وحرياته العامة والخاصة، ولجأت اليها فئات اجتماعية نشيطة لإضفاء ابعاد اجتماعية على برامج الخصخصة وغيرها من السياسات الاقتصادية، ولجأت اليها المجموعات الاسلامية الاصلاحية لحمايتها من الانشطة البوليسية وتأكيد حقوقها في ممارسة العمل السياسي.

وفي واحد من احكامها اقرت للزعيم الوفدي فؤاد سراج الدين بحقه في ممارسه حقوقه السياسيه، واتاحت للناصريين تأسيس حزبهم رغم اعتراضات النظام السابق، وقضت بعدم شرعية المجالس البرلمانية لاربعة انتخابات، ولم تستشعر حرجا سياسيا في اعلان بطلان تشكيل المجالس البرلمانية لستة عشر سنة متصلة من 1984 الي عام 2000. وأيدت حرية التعبير وخففت من التعسفات الحكومية على حرية الاعلام فرفضت في فبراير 1993 النص الجنائي الملزم للصحفي بتقديم دليل برائته خلال 5 ايام من اتهامه بالقذف. وايدت حزب العمل في مسعاه لحمايه الصحافة الحزبية التابعة للتجمعات السياسية، فرفضت مسائلة رئيس الحزب جنائيا عما ينشره غيره في صحيفة حزبه، وبعدها بعامين رفضت مسائلة رئيس التحرير جنائيا عما ينشره غيره في صحيفته.

وبإكتساب المحكمة شعبية، دخلت في صدام مكتوم مع النظام السابق، وتلقت تهديدات مبطنة بأن سرب النظام السابق مشروع قانون يقلص من الزامية احكام المحكمة للبرلمان، رغم ان احكامها –بحسب قانونها- ملزمة لكافة مؤسسات الدولة. وباستمرارها في احترام اجندتها الاصلاحية، تلقت ضربة حقيقية، فعقب حكم لها برفض قانون ضريبي واعادة الاموال الي اصحابها، صدر قرار رئاسي بتعديل قانونها وبالتضييق من الزامية احكامها في هذا النوع من القضايا. ورغم اقتصار التعديل على نوع واحد من القضايا الا انه كشف نية الالتفاف حول قانون المحكمة، وكشف تهديدا حقيقيا لقدرة المحكمة على القيام بمهامها الدستورية.


وبقدوم انتخابات عام 2000 اتحدت عدة مجموعات شعبية على بعض المطالب الاصلاحية، وتقدم خالد محي الدين بمشروع قانون يجعل الاشراف على الانتخابات قضائيا كاملا، ورد النظام السابق باقرار اشراف قضائي صوري للانتخابات، فأكدت المحكمة في حكم تاريخي لها مبدأ الاشراف القضائي الكامل على الانتخابات. وبحلول عام 2001 خرق النظام السابق عرفا قضائيا مستقرا بتعيين الاقدم من بين اعضاء المحكمة رئيسا لها، واتى برئيس لها من خارجها، وسعى رئيسها الجديد الي زيادة عدد اعضاء المحكمة وتقسيم قضاتها الي دوائر ثلاثة لابعاد الاصلاحيين عن القضايا الحيوية.

خلاصة الحديث، التعديل الدستوري المقترح لا ينتقص من الدور الجليل لمحكمة النقض بقدر ما هو يتيح دورا وطنيا للمحكمة الدستورية لحماية مؤسسات الديمقراطية المصرية، ولعل مخاوف الجمعية العمومية لمحكمة النقض دافعا للشعب ليصون المؤسسة من فساد الاشخاص، ولعل المحكمة تساهم في نقل الحوار الوطني الجاري من صخب الشوارع الي دور العدالة، كيلا تختلط المطالب الفئوية بالانتهازية السياسية، ولعلها تستكمل اجندتها الاصلاحية و تستمر فيما فوضها الشعب فيه من تفسير الدستور باسمه وبقوة تلزم جميع مؤسسات الدولة.