Friday, January 29, 2010

إستثمار الأصول الزراعية

حضرت مؤخراً ورشة عمل بعنوان"حقوق الملكية بين الصين وافريقيا: قوانين مبهمة وممارسات تقليدية". تناولت الورشة ثلاثة اوراق بحثية، تناولت حقوق الملكية –خاصة الملكية الزراعية- في كل من الصين واوغندا. جذب انتباهي منها ورقة البروفيسور جون كينيدي، والتي أتاح لنا فيها نظرة شاملة علي النظام القانوني للملكية الزراعية في الصين، سواء من حيث التنظيمات التشريعية ، او من حيث الممارسات العرفية. اوضح كينيدي ان الملكية الزراعية في الصين هي من آخر موروثات نظام اقتصاد الخطة الذي ساد في الصين، قبل تحولها الي اقتصاد السوق. فمازالت الملكية الزراعية في غير متناول ذمة الاشخاص فرادي. فالملكية الزراعية في الصين هي إما ملكية الدولة (أواجهزتها العامة)، او ملكية جماعية.


علي أن تواجد نظامين مختلفين، احدهما رسمي (نظمه التشريع)، والآخر عرفي (استدعته احتياجات المجتمع)، أضر الدولة أكثر مما افادها. فالحاصل أن غياب رؤية مبكرة لمستقبل الملكية الزراعية في الصين قد أدي الي تفتت الملكيات الزراعية بين الأفراد، بل والي تحول بعضها الي ملكيات صناعية. فبدلاً من العمل علي تحفيز الراغبين في التملك للسعي نحو خلق فرص ملكية جديدة من العدم (من خلال إستصلاح الأراضي)، زاد التنافس علي الموجود، فأرتفعت أسعاره، وتمت تجزئته، وأنتهي الأمر بتفتته، وضياع مزايا زراعة القطع الزراعية الكبيرة، وانتشار مساوئ زراعة القطع الصغيرة. ولم يعد قادراً علي إعادة تركيز الملكية إلا من رأي جدواها في تحويلها الي ملكية صناعية.


والواقع، أن معضلة تحقيق الجدوي من الملكيات الزراعية لا تنفرد به الصين وحدها في عالمنا المعاصر. وبصفة عامة، فإن غياب رؤية مصحوبة بتنظيم تشريعي واضح لطرق نقل الملكية الزراعية، وفي ظل تنافس محموم علي اكتساب الملكية، نجم عنه التصرف فيها بغير رشد، اما بتفضيل للبعض علي حساب البعض او الي مراعاة الكل دون تفرقة، وفي كلا الحالتين كانت العدالة غائبة والظلم حاضر. ففي الحالة الاولي، وظل غياب معايير موضوعية للتفضيل، كان للإعتبارات الشخصية دور غير محمود (بل وغير مشروع أحياناً)، فكان الظلم حالاً. وفي الحالة الثانية، وفي ظل غياب حد أقصي لعدد الملاك، كانت الكثرة العددية للملاك سبب في محدودية الجدوي الإقتصادية (بل واحياناً إنعدام الجدوي تماماً وتحقيق الخسارة الإقتصادية)، فكان الظلم مستقبلياً.


وليس من قبيل المبالغة، إعتبار أن جانب كبير من المزايا التنافسية بين اقتصاديات الدول في المستقبل القريب والبعيد يرتبط بحسن إستغلال الملكيات الزراعية. صحيح أن الدول الغنية احسنت إستغلال العلم –وعلي رأسها علم الإدارة- ونقلته الي إدارة الملكيات الزراعية، فزادت جدواها وقيمتها. لكن صحيح أيضاً أنها افرطت في ذلك، فاعتبرت الزراعة صناعة، واهتمت بالخصائص المصطنعة للمحاصيل علي حساب الخصائص الطبيعية، لدرجة محاولتهم التوصل الي ما يسمي (بذور المحصول الواحد) في إطار إستثماراتهم في الملكية الفكرية. علي أن الأمر قيد التغير بتغير أذواق المستهلكين في هذه الدول، فالطلب علي المحاصيل العضوية (المحافظة علي الخصائص الطبيعية) يتزايد في هذه الدول بكثرة، وعلي الدول النامية الزراعية ان تسعي لحماية بذور محاصيلها العضوية تحت مظلة الحماية القانونية الدولية لحقوق الملكية الفكرية بإعتبارها نواة تقنيتها الزراعية في المستقبل، خشية أن تتسلل قيمتها وجدواها الي خزائن الغير.

Saturday, January 16, 2010

كتاب: كبوة وصحوة الدولة الإسلامية

طالعت مؤخراً كتاباً للبروفيسور نواه فيلدمان بعنوان “The Fall and Rise of Islamic State”. نواه فيلدمان هو استاذ قانون بمدرسة هارفارد للقانون. قام بدراسة الفكر الاسلامي بجامعة اكسفورد البريطانية عام 1994، وحصل علي الدرجة القانونية الاولي من جامعة يل الامريكية عام 1997 حيث عمل محرراً لمجلتها القانونية، كما عمل كباحث مساعد للقاضي ديفد سوتر بالمحكمة العليا الامريكية. ثم التحق بالهيئة التدريسية لمدرسة القانون بجامعة نيويورك عام 2001، ثم غادرها عام 2008 للتدريس بمدرسة هارفارد للقانون. استعان به العراق –كخبير بالقانون الدستوري- خلال صياغة الدستور العراقي الجديد، حيث دعا الي مراعاة الابعاد الاسلامية للدولة عند صياغة الدستور الجديد.


انتقد العديد –ومنهم المفكر الامريكي ذو الاصل الفلسطيني إدورارد سعيد- انخراط فيلدمان في دوره الاستشاري للحكومة العراقية، علي اساس عدم خبرته الكافية بالسياسة العراقية. رغم هذا النقد، لا ينكر أحد انه استطاع في كتابه الاخير ان يتفوق علي غيره في قراءة احوال العالم الاسلامي سواء من خلال إتساع رؤيته لتشمل دول الشرق الأوسط والادني والاقصي، او من حيث تعمقه في تحليل وتصنيف عدة طوائف تري مستقبلها مرتبطاً بعنصر اسلامي، رغم إختلافها فيما بينها في تعريف هذا العنصر.


فيلدمان يؤكد ان للعالم الاسلامي نصيب كبير في مبدأ سيادة القانون الذي يعتنقه الغرب الآن، مؤكداً أن للفقه الاسلامي دور كبير في تطوير مبدأ سمو القانون منذ القرن الثاني عشر الميلادي، حيث حافظ بثبات نسبي –تخللته بعض المخالفات- علي مبدأ عدم تسيّد احد علي القانون، حتي ولو كان الخليفة ذاته. ويستكمل قراءته ليؤكد ان مبدأ الفصل بين السلطات الذي يعرفه الغرب الآن، قد قام له قرينه في السياسة الإسلامية، حيث قام توازن مشابه بين سلطات الخليفة وسلطات العلماء في إدارة شئون العدالة. ويري فيلدمان في هذا التوازن نموذج من التوزيع الدستوري العرفي للسلطات عرفه العالم الاسلامي حينها بين أولي الأمر وأولي العلم. ويستطرد ملاحظاً أن ما أفسد هذا التوازن اختلال شئون العدالة نفسها، مما افقد العامة ثقتهم في القائمين عليها، ومما افقد هؤلاء ثقتهم في انفسهم، فغلقوا علي انفسهم ابواب الاجتهاد، وتاه ميزان العدالة في البلاد.

Friday, January 8, 2010

كتاب جديد: أصول المحاكم الإقتصادية

طالعت مؤخراً كتاب "أصول المحاكم الإقتصادية" (دار النهضة العربية 2010)، لكاتبه الدكتور احمد حشيش، أستاذ القانون بكلية الحقوق جامعة طنطا. قد توحي القراءة الاولي العابرة للكتاب بتناوله مسألة المحاكم الإقتصادية بإعتبارها نوعاً من التخصص القضائي الذي تبناه المشرع المصري في الآونة الاخيرة في إطار السعي الحثيث لتشجيع بيئة الإستثمار في مصر، من خلال تطوير آلية عملية لفض منازعات من طبيعة خاصة. علي ان القراءة الثانية المتأنية للكتاب، تفضي الي رؤية أكثر ثراء من ذلك.


علي مدار الكتاب، يتناول المؤلف القانون رقم 120 لسنة 2008 بإنشاء المحاكم الإقتصادية في مصر بإعتباره "إعلاناً رسمياً عن ميلاد فرعين قانونين لأول مرة في مصر، وهما: القانون الإقتصادي وقانون المحاكم الإقتصادية". وهو ما يراه المؤلف تطوراً "يتجاوز مجرد التطور الإصطلاحي"، وإنما هو "تطور في الطابع القانوني". وبإعتبار ذلك تطوراً في التقنية التشريعية، فإن المؤلف يلفت النظر –مبكراً- الي اهمية إمتداد ذلك الي استحداث تقنية فقهية تواكب ذلك التطور، كيلا "تنزوي تباعاً ملامح هذا التطور تحت ركام القديم والاقدم والمعتاد عليه تقليدياً في العمل، فيتمخض التطور عن مجرد مسخ مشوه للقديم، لا لشئ إلا لمجرد الإعتياد علي القديم".


ويستعرض المؤلف المقدمات التي تعزز منطقه، بتناوله الاصل القانوني الحاكم للعمل الإقتصادي. فيصك مبدأه "السوق المنظم ولو كان حراً"، بإعتباره خير تعبير يواكب التطور الحاصل، الذي "لا هو مجرد عدول عن فكرة: "السوق غير الحر بإطلاق"، التي سادت –حتي – في مصر منذ ستينات القرن الماضي، بدءاً من حركة التأميم بوجه خاص، ولا هو مجرد رجوع إلي فكرة: "السوق الحر بإطلاق"، التي سادت في مصر –حتي – قبل إلغاء النظام الملكي فيها". بل هو "ضرورة عصرية ملحة في مصر حالياً، خاصة ان الإقطاع الإقتصادي المعاصر هو بطبعه إقطاع عالمي وليس إقليمياً أو محلياً فحسب، وبالتالي فهو أشد قساوة وضراوة".