Sunday, November 5, 2017

نحو اعادة تعريف الموظف العام


لتطوير القانون العربي -والمصري بصفة خاصة- لابد من إعادة تعريف وهيكلة بعض المفاهيم الضرورية لتحقيق المصلحة العامة، ومنها مفهوم "الموظف العام" بإعتباره عنصر مهم في مكافحة جرائم الفساد -كالرشوة مثلاً- سواء في القطاع الحكومي او في القطاع الخاص. فتحقيق المصلحة العامة في مجتمع ما يتحقق بالإستغلال الأمثل لكافة موارده سواء كانت تخص القطاع الحكومي او القطاع الخاص خاصة في الحالات التي يتولى كل منهما تقديم خدمة عامة (للمزيد من التفاصيل عن المصلحة العامة والاستغلال الأمثل للموارد في المجتمع رجاء مراجعة احكام المحكمة الدستورية التي تتناول الوظيفة الاجتماعية للملكية)

لنتفق ابتداء ان للقانون دور هام في تحقيق التنمية. والحق في التنمية ينصب على مصلحة قانونية معتبرة واجبة الحماية قانوناً. وتحقيق التنمية ليس حكراً على القطاع الحكومي وحده، بل يساهم القطاع الخاص فيه أيضاً بموارده. وتحقيق التنمية ليس حكراً على المرافق الحكومية والاشخاص العامة وحدها بل تساهم فيه ايضاً المرافق الخاصة والاشخاص المعنوية الخاصة التي تقدم خدمة عامة. وبالتالي فإن الحماية القانونية للمصلحة العامة -والتي تمثل الخدمة العامة احد وجوهها- تستتبع ان تمتد تلك الحماية امتداداً ليشمل حماية الثقة العامة في (اولاً) الخدمة العامة ذاتها، و(ثانيا) الثقة العامة في مقدمي الخدمة و(ثالثا) الثقة العامة في متلقي الخدمة

ولتوضيح الفكرة، لنفترض مثلاً ان المصلحة العامة استدعت تخصيص موارد عامة لإنشاء طريق عام مخصص لسير نوع معين من السيارات وحظر سير نوع آخر من السيارات الثقيلة عليه لتجنب الحاق الضرر بهذا الطريق. في هذا المثال، لدافع الضرائب مركز قانوني يكفل له حقه في التأكد من تحقيق المصلحة العامة في كافة نواحيها. والمصلحة القانونية الواجب حمايتها هنا هي ثقة العامة في استخدام الموارد العامة في تحقيق المصلحة العامة، وهي اختصاراً "الثقة العامة". وبالتالي فإن الحماية القانونية تنصب على ثقة العامة في مواصفات الطريق نفسه (الخدمة ذاتها)، وفي القائمين على تقديم الخدمة (مقدمي الخدمة)، وفي القائمين على تلقي الخدمة (متلقي الخدمة).اذن، فالحماية القانونية ينبغي ان تشمل العناصر الثلاثة السابق ذكرها

 وبالتالي، ينبغي حماية الثقة العامة في ان (اولا) انشاء الطريق قد تم طبقاً للمواصفات القانونية كيلا تقع فيه حوادث بسبب عيوب في تصميمه او في انارته الخ، وكذلك حماية الثقة العامة في ان (ثانيا) ادارة الطريق تتم وفقاً لاعتبارات الامن والسلامة والصحة كيلا تقع فيه حوادث بسبب عيوب في صيانته اوالاشراف عليه الخ، وكذلك حماية الثقة العامة في ان (ثالثا) استخدام الطريق تتم وفقاً للشروط القانونية المقررة كيلا تقع حوادث بسبب اي تلف تلحقه به سيارات ثقيلة غير مقرر لها السير عليه

ومن المتصور ان يقع سلوكاً ضاراَ -كالغش مثلاً في صوره العديدة المختلفة- يخل بالحماية القانونية الواجبة للثقة العامة في الخدمة العامة. وقد يخل هذا الغش بواحد او اكثر من العناصر الثلاثة السابق ذكرها: الثقة العامة في الخدمة ذاتها او في مقدم الخدمة او متلقي الخدمة. ويقتصر هذا المقال على تناول مسألة الثقة العامة في الخدمة العامة ذاتها والثقة العامة في مقدمي الخدمة، لاتصالها فكرة "الموظف العام" بهما، وهي الفكرة التي ندعو إلي إعادة تعريفها وفقاً لمفهوم متوازن للخدمة العامة والموارد العامة في ضوء فكرة الوظيفة الاجتماعية للموارد المجتمعية المتصلة بالخدمة العامة

وهناك صور غش عديدة متصور وقوعها واخلالها بالحماية القانونية السابق الاشارة اليها، ويجمعها جميعاً انها تشكل إخلالاً بالأمانة الوظيفية التي تستدعي توفير وتقديم الخدمة بأمانة. وبالتالي فإن حق العامة في الخدمة (الذي يحمي الثقة العامة في الخدمة) يقابله التزام على من يتولى توفير الخدمة ومن يتولى تقديم الخدمة (وهو التزام محله امانة الخدمة)

اذن، فإن احد صور الاخلال بالثقة العامة في الخدمة هو الغش في أمانة الخدمة، وهو ما يعرفه الفقه الامريكي باسم
Honest Services Fraud
والذي يتصل بما يعرفه الفقه الامريكي من علاقات الأمانة او الثقة
fiduciary relationship

وما سبق له أصل في القرآن الكريم حيث يقول تعالى في سورة القصص الآية 26
" إن خير من استأجرت القوي الأمين "

آن الأوان ان نعيد النظر في التعريف التقليدي للموظف العام والموارد العامة والمال العام. ولعل نقطة البداية هي تقصي ما يعرفه الفقه المصري من مال عام "حقيقي" ومال عام "حكمي"، وكذلك موظف عام "حقيقي" وموظف عام "حكمي". ولنفحص بعد ذلك ما يقرره الفقه المقارن بخصوص الحماية الجنائية لعلاقات الأمانة والثقة، لنضع مفهوما يحمي الثقة العامة في امانة الخدمة، ومن بعدها الثقة الخاصة في أمانة الخدمة. والله اعلم