تناول المشرع الاماراتي تعريفاً للجريمة الأصلية المرتبطة بجريمة غسل الأموال، وذلك في المادَّةُ الأولى من القانون المرسوم بقانون اتحادي رقْم (26) لسنة 2021 والمُعدّل لبعض موادِّ المرسوم بقانونٍ اتِّحاديٍّ رقْم 20 لسنة 2018 بشأن مُواجهةِ جرائم غسلِ الأموالِ ومكافحة تمويل الإرهاب وتمويل التنظيمات غير المشروعة
كانت المادة الأولى في المرسوم بقانون لسنة ٢٠١٨ تتضمن عدة تعريفات منها تعريف الجريمة الأصلية كالتالي
كل فعل يشكل جناية أو جنحة وفقاً للتشريعات النافذة في الدولة، سواءً ارتكب داخل الدولة أو خارجها متى كان معاقباً عليه في كلتا الدولتين
واستمر التعريف التشريعي للجريمة الأصلية في ضوء تعديل ٢٠٢١ كما هو دون تغيير
وقد يثير هذا التعريف التساؤل بشأن الآثار القانونية المترتبة عليه. وتحديداً، يثير تساؤل اذا كان مؤدى هذا التعريف هو امكانية القول بأن المشرع الإماراتي قد اقر قاعدة قانونية من شأنها مد الاختصاص القضائي لمحاكم الدولة لتشمل جريمة أصلية وقعت خارجها، اذا ما ارتبطت هذه الجريمة بجريمة غسل أموال تدخل في الاختصاص القضائي لمحاكم الدولة
نطاق هذا التساؤل يقتصر على طائفة معينة من الجرائم الأصلية الواقعة في الخارج، وهي الجرائم التي وقعت في الخارج ولا تدخل في اختصاص المحاكم الوطنية وفقاً لمبادئ امتداد سريان قانون الجرائم والعقوبات خارج الاقليم، اي مبادئ الشخصية او العينية او العالمية. ذلك أن الجرائم الواقعة في الخارج والتي يسري عليها قانون الجرائم والعقوبات وفقاً لأي من المبادئ السابقة لا خلاف باختصاص القضاء الاماراتي بنظرها وتقرير العقوبة المنصوص عليها في القانون الوطني لها
لذلك، فالتساؤل هو: هل تدخل الجرائم الأصلية المشار إليها أعلاه في الاختصاص القضائي لمحاكم دولة الإمارات
تكمن الاجابة على هذا السؤال في تحديد المقصود بالاختصاص القضائي
وهل يُفهم الاختصاص القضائي بمعيار واسع أي اختصاص المحاكم بالجرائم الاصلية أي تحقيقها بتحري مدى توافر أركانها دون أن يشمل ذلك امكانية العقاب عليها، وبالتالي -وفقاً لهذا المعيار- تعد المحاكم الاماراتية مختصة بتحقيق الجرائم الاصلية الواقعة في الخارج دون العقاب عليها
ام هل يُفهم الاختصاص القضائي بمعيار ضيق هو اختصاص المحاكم بالبت في الجريمة الأصلية أي تحقيقها بتحري مدى توافر أركانها وكذلك العقاب عليها، وبالتالي تعد المحاكم الاماراتية غير مختصة بالجرائم الاصلية الواقعة في الخارج اذا كان لا يمكنها العقاب عليها
نميل هنا الي الاخذ بالمعيار الضيق، فاختصاص المحاكم الوطنية بنظر جريمة يعني قدرته على تحقيقها والعقاب عليها، لصعوبة القول في نظرنا ان المحاكم تختص بنظر جريمة لكن لا يمكنها العقاب عليها. واذا قامت المحاكم بتحري مدى توافر اركان الجريمة الأصلية نظراً للزوم ذلك لتقوم بمهمتها بتحري مدى توافر اركان الجريمة التبعية (غسل الأموال) فهذا لا يعني انها مختصة بنظر الجريمة الأصلية، فهي تتناول الجريمة الأصلية عرضاً بمناسبة تناولها للجريمة الأخرى التي تدخل في اختصاصها
ولا يقال هنا ان المادة الأولى بنصها الحالي أضفت اختصاصاً للمحاكم الوطنية بالجرائم الأصلية، وأنها تختص بنظر الجريمة الاصلية لتعاقب على الجريمة التبعية، فصحيح هذا القول ان المحاكم تختص بنظر الجريمة التبعية (غسل الأموال)، والاختصاص هنا مؤداه تحقيقها والعقاب عليها. لكن النص لا يمكن أن يفهم منه امكانية العقاب عن الجريمة الأصلية الواقعة في الخارج. وانما يُفهم منه ان المحاكم الوطنية خلال نظرها لجريمة غسل اموال يجب عليها التأكد من توافر شروط قيامها، ومنها وجود جريمة أصلية سواء وقعت الجريمة الأصلية في الداخل او الخارج. فإذا انتهت الي توافر جريمة غسل الأموال، هذا معناه وقوع الجريمة الأصلية سواء في الداخل او الخارج، لكنه لا يعني امكانية العقاب على جريمة أصلية وقعت في الخارج، ولم تكن من الجرائم التي تسري عليها مبادئ الشخصية او العينية او العالمية حسب تعريفها في قانون الجرائم والعقوبات الاماراتي
وقد يُرد على ذلك بالقول أن النص قد تطلب ان تكون الجريمة الأصلية معاقباً عليها في الدولتين. هذا صحيح في سياق محدد، هو بيان المشرع لشروط العقاب على جريمة غسل الاموال، ومنها ان تكون الأموال متحصلة من فعل غير مشروع يشكل جريمة (الجريمة الأصلية) سواء وقعت في الداخل او الخارج. اي ان المشرع -لأجل تقرير العقاب عن جريمة غسل الاموال- تطلب ان تكون الأفعال الواقعة في الخارج تشكل جريمة في الدولتين، لكن هذا لا يصلح سنداً للقول بإمكانية تقرير المحاكم الوطنية لعقوبة عن الجريمة الأصلية
ولذلك، فتعريف المشرع للجريمة الأصلية لا يُعد قاعدة قانونية يمكن على اساسها تقرير المحاكم الاماراتية عقوبة على الجرائم الأصلية الواقعة بالخارج، وأنما هو مجرد تعريف للجريمة الأصلية ينظر إليه كشرط يجب على المحاكم الإماراتية التأكد من توافره عند تقرير عقوبة على جريمة غسل الأموال
فإذا كانت القاعدة القانونية تتكون من شقين: شق التكليف (اي التجريم: افعل او لا تفعل) وشق الجزاء
فتعريف الجريمة الأصلية هنا هو جزء من شق التكليف (التجريم) لجريمة غسل الأموال وليس جزءا من شق الجزاء
والقول بغير ذلك مؤداه افساح المجال للمحاكم الوطنية لتقرير عقوبة عن الجرائم الاصلية وحدها حال عدم توافر اركان جريمة غسل الأموال، أي افساح المجال لهذه المحاكم بتحقيق الجريمة الأصلية وتوقيع العقوبة المقررة في النصوص الوطنية على جريمة وقعت في الخارج، وإلا كان ذلك مخالفاً لصريح نص القانون ومخالفا لروح القانون
أما عن مخالفة صريح نص القانون، ذلك أن الأصل ان يسري قانون الجرائم والعقوبات من حيث المكان علي الجرائم الواقعة في الاقليم، اما سريانه علي جرائم واقعة خارج الاقليم وفقاً لمبادئ امتداد سريان قانون الجرائم والعقوبات من حيث المكان خارج الاقليم عليها هو استثناء لا يتوسع فيه بدون نص واضح صريح، وفي ضوء علة تشريعية معينة تستوجب تطبيق النص الوطني نظرا لاتصال الجريمة الواقعة في الخارج بعنصر وطني، هو صفة في شخص الجاني او المجني عليه (مبدأ الشخصية) او المساس بمصلحة وطنية (مبدأ العينية) أو كون الجريمة من جرائم محددة تمس المجتمع الدولي (وفقا لمبدأ العالمية مثل جريمة غسل الأموال القرصنة والارهاب الدولي والاتجار في البشر). وبالتالي لا يجوز التوسع في هذا الاستثناء بدون نص واضح صريح، وفي غياب العلة التشريعية الموجبة لتطبيق النص الوطني
أما عن مخالفة روح القانون، ذلك أن لكل جريمة عقوبتها التي حددها المشرع بالنظر إلي مساس الجريمة بمصلحة قانونية يحميها القانون الوطني. كيف يتصور توقيع ذات العقوبة على الجريمة الأصلية الواقعة في الخارج والتي تمس مصلحة قانونية أجنبية؟ فمن ناحية أولى، النص الوطني يعاقب علي عدوان وقع علي مصلحة وطنية، أما العدوان في حالتنا وقع علي مصلحة أجنبية. هل يستوى الأمر لدى القانون الوطني فيتم استخدام ذات العقوبة المقررة علي عدوان واقع على المصلحة الوطنية للعقاب على عدوان واقع على مصلحة أجنبية. من المهم ملاحظة أن هذه المصلحة الأجنبية التي تم العدوان عليها لم تصل إلي مستوى المصالح الدولية التي قرر المشرع حمايتها وفقاً لمبدأ العالمية
ومن ناحية ثانية، عندما قام المشرع بفرض عقوبة على أفعال وقعت في الخارج ولا تمس مصلحة وطنية وإنما تمس مصلحة دولية هامة، تطلب لسريان قانون الجرائم والعقوبات وفقاً لمبدأ العالمية ان يوجد مرتكب الجريمة في الدولة بعد ان ارتكب جريمته التي تدخل ضمن الجرائم الدولية التي نص عليها المشرع. أي أن المشرع عند حمايته لبعض المصالح الدولية الهامة باستخدام العقوبات المقررة في القانون الوطني لم يترك المجال مفتوحا من حيث الجرائم أو الأشخاص، بل وضع نطاقا لجرائم محددة ووضع نطاقا للأشخاص المتواجدين في الدولة. وطالما أن المشرع كان حريصا على وضع هذين القيدين عندما فرض حمايته على مصالح دولية هامة، لا يتصور أن يمد حمايته لمصلحة أجنبية تم العدوان عليها من خلال الجريمة الأصلية الواقعة في الخارج، ويقرر استخدام العقوبات المقررة في القانون الوطني ويترك المجال مفتوحاً على إطلاقه من حيث الجرائم ومن حيث الأشخاص، رغم أنه قيد هذا المجال بقيدين عندما فرض حمايته على المصالح الدولية الهامة التي تعلو في أهميتها المصلحة الأجنبية البحتة